علم الإجرام علم حديث النشأة، ظهرت نواته الأولى في الاتجاه الفلسفي عند فلاسفة اليونان أمثال إيبوقراط وسقراط وأفلاطون وأرسطو الذين فسروا الظاهرة الإجرامية على
أنها نتاج نفسية مطربة ترجع إلى عيوب خلقية جسمية أو إلى انحرافات عقلية عند الإنسان، وقد بقي هذا الإتجاه سائدا لفترة
طويلة وتعدل في اتجاهات مختلفة تعلقت في معظمها بالملامح التكوينية والتفسير
الغيبي وكان أبرزها آراء ديلا بورتاج Porta Della التي أبداها في مؤلف له في علم الإجرام سنة 1586 ورأى فيها أن السلوك الإجرامي يرجع إلى
صفات خاصة في ملامح
الوجه خاصة في العينين والجبهة،
وأيدت نظريته بعض فلاسفة المذهب الطبيعي أمثال داروي Darwin ، وأضاف إليها البعض الآخر أمثال لافاتيه وجال Gall عناصر أخرى تكمن في
الخلل في النمو الطبيعي لأجزاء الدماغ والمخ.
والطابع العلمي الواضح في علم
الإجرام بدأ يتحدد بظهور أراء العالم الفرنسي جيري Gurry والبلجيكي كيتيليه وقد اعتمدا على الأسلوب الإحصائي
في التحليل (تحليل الظاهرة الجريمة)، وبينا مدى تأثرها بالعوامل المختلفة التي تحيط بها كالمناخ وسن المجرم وجنسه ومستوى معيشته والبيئة الإجتماعية
التي يعيش في ظلها، وقد ركزا على الأسباب الإجتماعية العامة ولم يعطيا الأهمية المطلوبة للعوامل الفردية، وكانت لأبحاثهما الفضل في وضع الركائز
الأولى لعلم الإجتماع الجنائي.
وفي النصف الثاني من القرن التاسع
عشر اتجهت أبحاث العلماء إلى دراسة شخصية المجرم، وكان من أبرزهم الطبيب الإيطالي لمبروزو Lombroso Ceasarالذي أصدر كتابه "الإنسان المجرم" سنة 1876
وضمنه تفسيراته عن سمات المجرم والظاهرة الإجرامية، واعتبره وحشا بدائيا يتميز
بعيون خلقية ظاهرة، ثم طور نظريته في الطبعة الثانية لكتابه
ورأى أن هنالك صلة كبيرة بين إجرام الشخص وتكوينه العضوي والنفسي، ووصفه بانه مجنون نفساني، كما رأى أن الجريمة ترجع إلى تشنجات عصبية تؤدي إلى ارتكاب أعمال العنف.
وأضاف تلميذ لمبروزو جاروفالو Garofalo Raffaele إلى عوامل التكوين الجسمي والنفسي المؤدية إلى الإجرام عوامل وظروف اجتماعية تتفاعل معها وتدفع إلى الجريمة، واستكملت هذه
الخطوات بظهور المدرسة الإيطالية الحديثة في علم الإجرام
التي تزعمها أنريكو فري Ferri
Enrico والتي أثرت في مختلف التشريعات، واعتبرت مكملة للأبحاث
التي بدأت قبل وضع فري كتابه عن علم الإجتماع الجنائي سنة 1884 والذي أبرز أهمية البيئة الإجتماعية في عملية الإجرام، ورأى أن الجريمة تقع نتيجة
تفاعل بين شخصية المجرم والظروف الطبيعية والإجتماعية التي تحيط به، وهي ثمرة حتمية لهذا التفاعل، والشخص الذي تجتمع
لديه هذه العوامل لابد أن يسير غير مخير إلى ارتكاب الفعل الجرمي
لذلك فهو لا يعتبر مسؤولا ويجب اتخاذ التدابير الوقائية والإحترازية اتجاهه وليس توقيع العقاب عليه.
هكذا يتبين لنا أن بذور علم الإجرام قديمة في نشاتها، ولكن بروزه كعلم له أسسه و معالمه الواضحة لم يظهر إلا في تاريخ حديث نسبيا، وما زالت الدراسات جارية لاستكمال موضوعاته التي ارتبطت بمختلف العلوم الطبيعية والطبية والقانونية والنفسية والإجتماعية والإقتصادية وغيرها، بغية الوصول بقدر الإمكان إلى وضع تصور للأسباب المؤدية إلى الإجرام متى يمكن تلافي مخاطره وأثره الضارة على المجتمع

إرسال تعليق